حوار  جريدة الصباح مع عزوز صنهاجي

عضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية

اخترتم شعار البديل الديمقراطي التقدمي شعارا للمؤتمر. هل يمكن اعتبار ذلك نقدا ذاتيا لمشاركتكم في حكومات بقيادة حزب إسلامي ومع مكونات يمينية؟

اخترنا توصيفَ بديلِ حزبنا بأنه تقدمي لكونه ينطوي على قطائع ترتكز على ترصيد مكتسبات بلادنا، وتتعارضُ في نفس الوقت مع السياسات التي تُكرِّسُ جمود الأوضاع، ولأنه بديل طموح وواقعي يتوخى إحداث قفزة نوعية في مسار تقدمنا الاجتماعي والاقتصادي. واخترنا نعت بديلنا، أيضاً، بكونه ديمقراطي لأنه يعتمد على الديموقراطية كمدخلٍ أساس لتنفيذه. وهو مطروحٌ للنقاش الوطني ليحظى بالتفاف فئاتٍ عريضة من المواطنات والمواطنين والقوى السياسية والاجتماعية التي تناضل من أجل التغيير وتشاركنا كُلَّ هذا التوجه أو جزءً منه.

مشروع الوثيقة السياسية للمؤتمر الحادي عشر لحزبنا يتضمن نفحة قوية من النقد الذاتي إزاء عددٍ من المواضيع لكن ليس من بينها مشاركاتنا الحكومية من 1998 إلى 2019. بكل بساطة لأن الحزب معتَـــــــزٌّ فعلاً بإسهامه الإيجابي خلال هذه الفترة فيما حققته بلادنا من مكتسبات. فإنجازاتُ وزيرة ووزراء الحزب، في كل القطاعات التي دَبَّرَها، شاهدةٌ أنَّ التقدم والاشتراكية قادرٌ على إحداث الفارق الإيجابي الضروري، من خلال تَمَلُّكِ إرادة الإصلاح ونجاعة الأداء وقوة الحضور السياسي. وذلك مع الإدراك التام بأننا لم ننجح في تحقيق كل ما كان يتعين تحقيقه. والجميع يعرفُ أنَّ حزبنا لم يكن لحد الآن في موقعٍ يُمَكِّنُهُ من تنفيذ كلَّ أو معظم برنامجه، كما كانت مشاركاتنا في إطار تحالفات وائتلافات تباينت درجاتُ نَفَسِها الإصلاحي.

يلاحظ المتتبعون لمسار التقدم والاشتراكية توترا في علاقتكم بباقي مكونات اليسار خاصة الاتحاد الاشتراكي. ما أسباب هذا التوتر، وهل لذلك علاقة بالتموقع في حكومة الإسلاميين؟

أولاً، ليس هناك أيُّ توتر مع أيِّ مكون من مكونات اليسار. ومبادراتنا الوحدوية الدائمة دليل على ذلك. في المقابل، نعم هناك اختلافات طبيعية في بعض التقديرات السياسية، وهناك تلوينات في اليسار، لكننا مقتنعون أنَّ المشترك أوسع وأرحب. ولذلك فالمستقبل لليسار، وليس عليك سوى أن ترصد عودة أفكار اليسار والنجاحات التي يحققها في عدد من بلدان العالم، لتتأكد من أنَّ ذلك ممكن.

على وجه التحديد، لا نُكنُّ للاتحاد الاشتراكي سوى مشاعر التقدير والأخوة والاعتراف بالأدوار التاريخية الهامة. ثم إنَّ حزب التقدم والاشتراكية وحزب الاتحاد الاشتراكي شاركا في حكومةٍ ترأسها العدالة والتنمية، طبعاً في ظروفٍ مختلفة. فالتحالف المرحلي والظرفي لحزبنا ذي المرجعية التقدمية، التي لم يُفرِّط فيها أبداً، مع حزبٍ ذي مرجعية إسلامية، أملته مقاومةُ ما كان يتهدد الحقل الحزبي والسياسي منذ السنوات الأخيرة من العقد الأول لهذه الألفية. وأكدت الأحداثُ فيما بعد صواب اختيار حزبنا في خوض تجربة تكاد تكون متفردة في المنطقة. وهي التجربة التي أسهمت في تثبيت إدماج تيارٍ سياسي في الفضاء المؤسساتي الوطني، بغض النظر عما أبان عليه من محدودية في القدرة على تدبير الواقع المعقد. وسيتذكر التاريخ أنَّ حزبنا ظل مُصِرًّا على أن تخوض مكوناتُ الكتلة الديموقراطية آنذاك تلك التجربة بشكلٍ مشترك، وكان لإخواننا في الاتحاد الاشتراكي رأيٌ آخر، ولم يلتحقوا إلاَّ بحكومة الدكتور سعد الدين العثماني في 2017 التي وُلدت متضاربة ومُفتَقِدة للنفس الإصلاحي المطلوب، وقد انسحب منها حزبُنا في 2019 كما تعلمون لهذه الأسباب بالضبط… هذا تقييم تقديري لمرحلة، أما بالنسبة للمستقبل فأيدينا ممدودة على الدوام لكل مكونات اليسار.

تراجع دور حزبكم في المشهد الحزبي، بسبب المشاركة في الحكومة. كيف تقيمون هذه المشاركة في ظل تحالفات هجينة؟

خطأ فادح القولُ إنَّ حزب التقدم والاشتراكية تراجع انتخابيا أو سياسيا خلال السنوات الأخيرة. بل العكس تماما هو الصحيح، فَتَقَدُّمُ الحزب مُثبت بالأرقام. فمثلاً في الانتخابات التشريعية لسنة 2011 حصلنا على 18 مقعداً، وفي الانتخابات الجماعية لسنة 2015 حصلنا على نحو نصف مليون صوتاً و1700 مقعداً جماعاتيا، وفي انتخابات 2021 حققنا نتيجة غير مسبوقة، بحصولنا على 22 مقعدا في الاقتراع الخاص بمجلس النواب، حيث صرنا نشكل القوة السياسية الحزبية السادسة. الاستثناء تم تسجيله في انتخابات 2016 لأسباب سبق وأن أكدنا أنها سياسية أكثر منها ذاتية. أما انتخابات الغرفة الثانية فلا أظنها صالحة عمليا لأن تكون معياراً، فحزبنا لا يمكنه أبداً أن يُجاري ما يتخللها من اعتمادٍ هائلٍ ويكاد يكون كليًّا على استعمال المال.

من حيثُ الوزن السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، ومع كل التواضع النضالي، فإن حزب التقدم والاشتراكية تحظى مواقفُهُ بمتابعة لا لا بأس بها من الرأي العام. وهو يُحافظ، وسط أجواء سياسية غير صحية عموماً، على قدرٍ من المصداقية والاحترام، إلى جانب فعالياتٍ سياسية وطنية أخرى. وذلك بفضل جديته واستقلالية قراره وجرأته المسؤولة وإقرانه للنقد باقتراح البدائل واحترامه لكافة الفرقاء ولو كان مختلفا معهم. فمكانة الحزب، إذن، واضحة، لكن علينا الاجتهاد أكثر من أجل إيجاد الصيغ المناسبة لجعل هذه المكانة تنعكس أكثر على وزننا الانتخابي، وهي معادلة صعبة، في ظروف العزوف، والفراغ السياسي، وفقدان الثقة، والاستعمال الواسع لأساليب فاسدة في الانتخابات. لكنها معادلة غير مستحيلة.

عاش الحزب خلافات داخلية انتهت بطرد عدد من مناضليه. ألا ترون أن إعادة توهج الحزب تبدأ أولا بالمصالحة الداخلية، قبل الحديث عن الانفتاح والتوسع؟

عن أيِّ مصالحة نتحدث !؟  أؤكد لك أنَّ حزب التقدم والاشتراكية لا يعبث بتدبير شؤونه، بل يقوم بذلك بشكلٍ جماعي وديموقراطي ومنفتح، بل أحيانا مفرط في التسامح داخليا. أعتقد أنَّ هذا التدبير الجماعي والديموقراطي هو من أهم نقط قوتنا. ثم إنَّ اللجنة المركزية في دورتها العاشرة يوم 10 شتنبر 2022 صادقت بالإجماع على مشاريع وثائق المؤتمر. هذا دليل على وحدة الحزب وتوجهه الجماعي سياسيا وتنظيميا. والحزب لا يخشى الانفتاح على الطاقات المجتمعية، بل نقوم بذلك عن اقتناع راسخ منذ سنوات طويلة، وأفضى ذلك إلى توسع جغرافي كبير للحزب الذي يتواجد اليوم في كل مناطق بلادنا. أما قرار إبعاد بضعة رفاق كانوا ينتسبون للحزب، فقد تم اتخاذه وفق قوانين الحزب، بعد أن أُعطيت لهم فرصةُ الدفاع عن أنفسهم وتقديم نقد ذاتي بخصوص تصرفاتٍ مسيئة للحزب وقيمه، تحولت فيما بعد إلى تهجمٍ مادي على مقر الحزب واجتماعاته، ولكنهم رفضوا تماماً المثول أمام لجنة التحكيم.  هل يُعقَل ذلك !؟ هل يُعقَل أنَّ مؤسسة حزبية أو غير حزبية تسمح بأن يكون أعضاء منها خارج قواعد القانون والمساءلة؟! أنا متأكد من أن المعنيين لو كانوا فقط قبلوا المثول أمام هيئات الحزب لما كانوا اليوم في هذه الوضعية.

اخترتم تدشين حوار سياسي مع مكونات من الصف التقدمي، وفي مقدمتها الحزب الاشتراكي الموحد. هل هناك أجندة لتدشين عهد جديد بين مكونات اليسار؟

حزب التقدم والاشتراكية، حينما يقدم للمجتمع بديله الديموقراطي والتقدمي، فهو يفعل ذلك باقتناعٍ بأنَّ تفعيل ذلك لن يتم إلا في إطار جهود مشتركة. العمل الوحدوي بالنسبة إلينا ليس حسابا سياسويا ضيقا، بل هو أمرٌ أساسي جدا منذ نشأة حزبنا قبل ثمانين سنة. ولذلك كان لدينا مفهوم الجبهة الوطنية الديموقراطية، وانخرطنا بعدها بقوة في تأسيس الكتلة الديموقراطية التي كان لها تأثير إيجابي في مُجريات الأحداث.

ونعتبر أنَّ التحالف الاستراتيجي هو تحالفُ قِـــوى اليسار. حيث سعينا دوماً نحو تحقيق وحدة اليسار. إلا أنَّ هذا الهدف لم يتحقق لحد الآن، ولم تتوفر بعدُ الشروطُ الذاتية لتحقيقه، رغم توفر شروطه الموضوعية، خاصة في هذه المرحلة السياسية حيث الاصطفاف الموحَّدُ لليسار ضمن المعارضة، وحيث توجد حكومةٌ تعبر عن توجهات يمينية واضحة. وسوف لن نَكُفَّ عن المناداة بوحدة اليسار والقيام بالخطوات اللازمة من أجل ذلك، سواء إزاء رفاقنا في الحزب الاشتراكي الموحد أو في أحزاب اليسار الأخرى كالاتحاد الاشتراكي.

من بين رهانات المؤتمر تجديد النخب.  هل هناك إرادة للقطع مع ظاهرة خلود الزعامات، ومنع ولاية جديدة للأمين العام؟

إذا كنتَ تقصد بالزعامة أن هناك مَــــــحـــوٌ للقرار الجماعي واستحواذٌ على الرأي، فهذا بعيدٌ كل البُعد عن ثقافة وممارسة حزبِ التقدم والاشتراكية. كل قرارات الحزب ومواقفه تخضع للنقاش، وللنقاش الحاد أحيانا. ولن تجد في قيادة الحزب من يقول لك “افعل ما تشاء”، بل ستجد على الدوام من يُحاججك، بشكلٍ مُضني أحيانا. صدِّقني مسؤولية الأمانة العامة في حزبٍ كالتقدم والاشتراكية ليست نزهة أو امتيازاً، كما أنها لا تأتي من خلال تعبيرٍ عن طموحٍ شخصي، بقدر ما هي قدرة هائلة على الصبر والتحمل، وعلى العمل، وعلى الإنصات والتوليف، والحرص على وحدة الحزب، وعلى التواصل، وعلى الاستعداد للتخلي التام تقريبا عن شيء اسمه الحياة الشخصية، وعلى تدبير المشاكل المتنوعة وحلها، في حفاظٍ على هوية الحزب وقيمه وخطه السياسي واستقلالية قراره.  طبعاً هذه المؤهلات، بعضها أو كلها، تتوفر في عددٍ من قيادات الحزب الحالية، لكن الالتفاف الكافي حول رفيق آخر أو رفيقة أخرى، غير الرفيق محمد نبيل بنعبد الله، هو التفافٌ لم يحصل الآن، رغم أن الأمين العام لا يُفَوِّتُ أيَّ فرصةٍ في اجتماعاتنا لكي يُــــلِـــحَّ أنه لن يُقدم ترشيحه وأنه علينا إيجاد حلٍّ… اقتناعي الشخصي، وهو اقتناعٌ عريض جدا في الحزب، هو أنَّ الرفيق الأمين العام الحالي مُلزمٌ بالتقيد بالمقاربة الجماعية التي قررناها في أجهزة الحزب، وبالتالي مواصلة عمله من موقعه خلال الفترة الانتدابية اللاحقة، على أساس أن يبرز رفيقات ورفاق يكون بإمكانهم تجسيد الخَلف على رأس الحزب في مؤتمر 2026، والحزب يزخر بطاقات مؤهلة لذلك. هذا، بنظري، هو الحلُّ المنطقي الذي هو في صالح الحزب.

عانى الحزب من ظاهرة الترحال. ألا ترون أن الانفتاح غير المحسوب على أعيان بحثا عن المقاعد هو سبب الانتكاس؟

الترحال الانتخابي ظاهرة مزمنة، مع أن القانون حَدَّ منها ولو خلال الفترة الانتدابية الواحدة. ولذلك وتيرة تجديد المؤسسات المنتخبة لا تزال بطيئة. ولعل أحد الأسباب الرئيسية هو عزوف معظم المثقفين والنخب عن الترشح للانتخابات لأسباب مختلفة، وهو ما يتعين إيجاد السبل لتجاوزه. من جهة أخرى، فسياسة انفتاح حزبنا على طاقات المجتمع وكافة المواطنات والمواطنين طالما أنهم يتمتعون بحقوقهم المدنية والسياسية، ويتميزون بالنزاهة والاستقامة، ويتفقون مع التوجهات العامة للحزب، هي اختيارٌ ثابتٌ ومتجذر للحزب منذ سنواتٍ طويلة. وذلك ما أدى إلى توسيع صفوف الحزب، وجعله جماهيريا ومؤثراً في مُجريات الأحداث الوطنية، وفاعلاً أساسيا في المشهد الوطني. دون ذلك من الصعب تحويل أفكارنا إلى تقدم. في نفس الوقت يطرح علينا هذا الانفتاح الجماهيري تحدياتٍ من أهمها رهان التكوين. والحزبُ مُـــدركٌ لأهمية الانفتاح، كخيارٍ لا رجعة فيه، من جهة، ولضرورة الحفاظ على مرجعية الحزب وخطه السياسي ومكانته كحزب ينبني على العمق الفكري والالتزام السياسي، من جهة ثانية.

ما هو تقييمكم لحصيلة حكومة أخنوش، وهل يكفي التعديل لتصحيح اختلالات التحالف الحكومي وضعف تدبير الكفاءات؟

إذا استثنيا التقدم على المستوى الإداري في تعميم التغطية الصحية، ودعم أرباب النقل، وبعض البوادر المشجعة في إصلاح التعليم، فإنَّ هذه الحكومة تكادُ غائبة، سواء من حيث عدم اتخاذها لقراراتٍ من شأنها حماية القدرة الشرائية للمغاربة الذين يواجهون غلاء الأسعار لوحدهم، أو من حيث ضعف دعمها للمقاولة الوطنية، أو من حيث تغييبها التام للبُعد الديموقراطي والحقوقي، أو كذلك على صعيد عدم مبادرتها إلى إعمال دولة القانون في المجال الاقتصادي. والمثال الصارخ هو رفضها لكل المقترحات الممكنة التي تقدمنا بها فيما يتعلق بالتخفيف من وطأة غلاء المحروقات. كما أن هذه الحكومة لم تكتفِ بعدم العمل، بل إنها لا تتواصل كما يجب مع الرأي العام.

الحكومة تنعت نفسها بأنها سياسية وقوية، لكن لا شيء يُثبت ذلك. والحقيقة أنَّ الحكومة لو كانت فعلاً حكومة كفاءات لكانت أبدعت حلولاً لها وقعٌ إيجابي على المعيش اليومي للمغاربة، عوض ارتكانها فقط إلى تبرير الأوضاع الحالية بالتقلبات الدولية للتنصل من وعودها الوردية. فأين الزيادة في أجور الأساتذة؟ وأين دخل الكرامة لمن لا دخل له؟ وأين طبيب الأسرة؟ وأين إصلاح التقاعد؟ وأين الإصلاح الجبائي؟ وأين إصلاح المقاصة؟ وأين مكانة الفلاح الصغير؟ وأين تقليص الفوارق المجالية؟ وأكثر من ذلك أين تفعيل النموذج التنموي الجديد الذي اتخذته مرجعا؟

التعديل الحكومي ليس هو أهم ما يـــهم الناس، بل الأهم هو تغيير السياسات والمقاربات. فالدولة الاجتماعية ليست شعاراً للاستهلاك الإعلامي، بقدر ما يتعين أن تكون مجسدة في إجراءات وقرارات تُقلص الفقر والهشاشة، وتُقيم العدالة الاجتماعية، وتجعل جميع المغاربة يستفيدون من ثمار النمو على قَدَم المساواة.