إسماعيل العلوي: ندرة الماء تحفز الهجرة القروية .. والريّ يستوجب إعادة نظر

صورة: هسبريس

حاوره: يوسف يعكوبي الثلاثاء 18 أكتوبر 2022

في هذا الحوار، يتحدث إسماعيل العلوي، وزير الفلاحة الأسبق، عن إشكالية ندرة الماء بالمغرب، وتصوّره للحلول الممكنة في هذا الصدد أمام المغرب، بعدما سبق الإعلان عن “حالة طوارئ مائية” ودخول المملكة مرحلة “الإجهاد المائي الهيكلي” رسميا.

وكان الملك محمد السادس قد أفرد المحور الأول من خطابه في افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان لهذه السنة، الجمعة الماضي، لموضوع الماء والسياسة المائية بالمملكة، معتبرا أن الأزمة الحالية “تفرض تحديات ملحة، وأخرى مستقبلية”، كما تتطلب تضافر جهود مختلف الفاعلين بكل مسؤولية وعقلانية.

هذا نص الحوار:

يعيش المغرب وضعية “إجهاد مائي هيكلي” بعد سنة جفاف حادة غير مسبوقة منذ 3 عقود، لا يمكن حلها بمجرد بناء التجهيزات المائية المبرمجة كما أقرّ بذلك الخطاب الملكي لافتتاح البرلمان. ما تعليقكم من منطلق خبرتكم الأكاديمية بالقطاع وكذا كـوزير أسبق للفلاحة؟

أظن أن الخطاب الملكي جاء بكلام هو عين العقل في الواقع، وهذا ليس بغريب علينا جميعا، لأننا كما نعلم، فإن خطابات افتتاح البرلمان تتضمن وضع صاحب الجلالة، دائما، للنقاط على الحروف في قضايا ومواضيع تفرض نفسها؛ ففي هذه السنة، ما يفرض نفسه هو مسألة العبء المائي التي تصل حد الندرة المائية التي نعاني منها الأمّرين، لاسيما فئة الفلاحين الذين يعانون من هذه الإشكالية أكثر من سكان الحواضر.

لا يمكن إلا أن أعبّر عن ابتهاجي لمضمون هذا الخطاب؛ لأنه فعلا أتى في وقته، بل استبق أحيانا حتى بعض الانعكاسات التي ستترتّب عن هذه الندرة في التساقطات المطرية وندرة الماء بصفة عامة. مررنا بسنة جافة عموما، وإلى حد الآن لا يمكن أن نقول إن ما سقط من أمطار كان له وزن كبير بالنسبة لرصيدنا المائي، وإنما لا نقنط من رحمة الله، وننتظر أن تكون السنة والموسم الفلاحي الذي نحن على أبوابه موسماً يلبي الرغبات من حيث الماء التي لدى كل مواطن ومواطنة في هذا الوطن.

عموما، ما جاء في الخطاب الملكي، سواء في شقه الأول المتعلق بالسياسة المائية أو بما أتى في النقطة الثانية حول الاستثمار، الذي أعتبره ذا علاقة مباشرة مع مشكل الندرة المائية، لا يمكن إلا أن نثمنه لأنه جاء في وقته، متمنّين من الله أن يتحقق مضمونه ويعمل المسؤولون على تطبيق توجيهاته.

دعا الخطاب الملكي إلى أخذ إشكالية الماء، في كل أبعادها، بالجدية اللازمة، “لاسيما عبر القطع مع كل أشكال التبذير، والاستغلال العشوائي وغير المسؤول لهذه المادة الحيوية”، وهو ما ترجمته قرارات عديدة خلال الصيف الماضي من خلال التحكم في صبيب الماء أو منع بعض الزراعات المستنزفة للفرشة المائية وعدم سقي المساحات الخضراء بالماء الشروب. ما رأيكم في هذه القرارات؟ وهل هي كافية؟

هذه القرارات نيّرة واتُّخذت في وقتها، لكن لا بد أن أؤكد أن هذه القرارات الضرورية لن تمنع من حدوث شيء يمكن أن ننتظره، ألا وهو تقوية نزوح سكان الأرياف نحو المدن والحواضر. وذلك لا لشيء إلا لأن المردود الفلاحي كان ضئيلا في السنة التي ودّعناها، وإلى حد الآن ما زالت الأمطار متأخرة نسبيا.

بالتالي، أخشى أن تحصل حركة نزوح كبيرة من سكان القرى والأرياف في اتجاه المدن، وهي الحركة المعروفة منذ زمن، لاسيما من طرف الفلاحين الضِّعاف والصغار الذين سيفضّلون اللجوء إلى الحواضر حتى يضمنوا المستوى الأدنى من العيش الكريم لهم ولذويهم وأسرهم. وهذا أمر أساسي علينا أن نعي حدوثه المرتقب وأن نجد الحلول المناسبة. هذه الأخيرة تضمنها بوضوح الجزء الثاني من الخطاب الملكي بخصوص تنمية دينامية الاستثمار المُنتِج الذي من شأنه أن يستجيب لاحتياجات المجتمع ومكوناته.

طبعا، هذا لا يعني أنه علينا أن نبقى متفرّجين على ما يحدث بالنسبة للماء وفي الأرياف، ولكن يجب علينا أن نقتصد في استهلاكنا للماء الشروب بالنسبة لسكان المدن وسكان بعض المراكز الحضرية في المناطق القروية النائية التي زُودت بالماء الشروب. ومعنى هذا ألّا يقع نوع من الإفراط في استهلاك الماء واستعمالاته المتنوعة، لاسيما أنشطة سقي المساحات الخضراء وحدائق المنازل.

استعمال الماء واستغلاله في الرّي يجب أن يخضع لمنطق التقليل والعقلنة حتى وإنْ كانت بعض هذه الموارد المائية متأتية من آبار قديمة موجودة في بعض المناطق السكنية وضواحي المدن. هذا أمر أساسي؛ أن يتم الاستغناء عن مناطق خضراء مفرطة في استهلاك الماء ونعوّضها بأشجار ونباتات قابلة للصمود في وجه شح الماء. علينا أن نعيد أيضا النظر في هندسة البساتين والحدائق الحضرية، وهذا دور الجماعات المحلية التي عليها ألّا تقوم بالتفريط في المساحات الخضراء الضرورية لعيش سكان المدن، ولكن في المقابل وجب تعميم تجربة مدينة الرباط في استعمال المياه العادمة بعد تصفيتها وتنقيتها من كل ما يمكن أن يؤدي إلى انعكاسات صحية سلبية.

فعلا، بدأت هذه التجربة في الانتشار والاستفادة منها في مدن كبرى كالرباط ومراكش. ويجب السعي نحو تجهيز كل مدينة مغربية بمحطات وأجهزة تصفية المياه العادمة قصد استعمالها في سقي المجالات الخضراء بالمدن.

في هذا الصدد، أظن أن هناك نوعا من التناغم التام مع ما جاء في الخطاب الملكي، وهذا يتطلب مزيدا من المجهود ووجود روح المبادرة لدى مختلف المسؤولين في مجالس الجماعات، لاسيما بالمدن الكبرى.

مشكل الماء لا يمكن أن يكون “موضوع مزايدات سياسية، أو مطية لتأجيج التوترات الاجتماعية”، في ظل كونية الظاهرة وتأثير المناخ. كيف يمكن تدبير ملف الماء بالمغرب في ظل الإكراهات وبناء على هذه التوجيهات؟

لسنا في حاجة إلى الفتنة، بشكل عام، ولسنا في حاجة كذلك إلى المزايدات السياسوية التي لا تسمن ولا تغني من جوع. بدلا من ذلك، علينا أن نلتزم بإدخال إصلاحات أساسية على زراعتنا وفلاحتنا، وأن نجعل ذلك الجشع، الذي تميّز به عدد من الملاكين الكبار، يقل على الأقل. وقد لوحظ نوع من التسارع مع الزمن شجّعه الجشع الرامي إلى تصدير عدد من المنتوجات إلى أسواق خارجية لمراكمة أموال طائلة.

أظن أنه علينا محاسبة أنفسنا جميعا، وأن يحاسب نفسه كل مَن يمتلك هذا النوع من الفلاحة التي استغلت كل إمكانيات حقينة السدود، واستغلت كذلك كل المساعدات التي خوّلها لها ما سمي بـ”مخطط المغرب الأخضر”، الذي كانت كفّته المخصصة لهذا النوع من الزراعة والفلاحة أثقل بكثير مما خُصص للفلاحة المعيشية التي يقتات منها الفلاحون الضعاف والمتوسطون في بلادنا.

إذن، دون أن نسقط في المزايدات، علينا أن نكون موضوعيين، وأن نلاحظ ذلك ونسعى لإلغاء التجاوزات التي لاحظناها خلال السنوات الأخيرة. وفعلا، لقد كانت بلادنا، ولله الحمد، بفضل سياسة السدود في غنًى ومنأى عمّا يحدث الآن من إجهاد مائي (stress hydrique)، إلا أن الظروف الطبيعية المناخية، وأحيانا حتى الظروف الجيو-سياسية العامة في العالم، فرضت علينا أن ندخل في المغرب ضمن مجموعة الدول التي تعيش إجهادا هيكليا، بدون شك.

علينا أن نستمر في تشييد السدود كلما أمكن، لكن أيضا علينا أن نعتني بالفرشات والسديمات المائية التي على الجهات المسؤولة عن قطاع الماء بالمغرب، أولا، أن تحيّن الدراسات التي أنجِزت إلى حد الآن، مع ضرورة اطلاعها على المستوى الحاصل حاليا بعد النزيف الذي طال، مع كامل الأسف، الموارد خلال السنوات الأخيرة.

مثلا، عندما ننظر إلى الحيازات التي تنتج التمور في مناطق جافة بطبيعتها (درعة وتافيلالت)، فلا بد أن ننسى أن هذه الضيعات تسقى انطلاقا من مياه وحقينات السدود، ولكنها تستعمل أيضا الفرشات المائية الباطنية التي بدأت مدّخراتها تقل، ولها تأثير سلبي ليس فقط على مستقبل الفلاحة بل على حياة السكان.

نستحضر أيضا، في هذا الصدد، فضيحة إنتاج الدلاح (البطيخ الأحمر) في منطقة زاكورة، وهي فضيحة غير مقبولة، ومن غير المقبول استمرارُها. كما أنه ليس بالضرورة أن نتخلص من طريقة “البْحيرات” التقليدية التي تعتمد على الأمطار، لاسيما الربيعية منها، ونأخذ كذلك حتى من هذه السديمات المائية التي أخذ مستواها في الانخفاض، وهو ما يُحوّل الماء إلى فاكهة لها قيمتها ووزنها الاقتصادي، لكن دون استفادة الساكنة المحلية التي تُعتبر أحق بالاستفادة من تلك المياه.

فضلا عن سياسة تشييد السدود التي انتهجها المغرب منذ عقود طويلة، تتوفر المملكة على مشاريع واعدة مبرمجة في إطار مخطط وطني تهم بناء “محطات تحلية مياه البحر” ومحطات معالجة المياه العادمة. هل هذه الحلول مستدامة بالنسبة لمشاكل ندرة الموارد المائية بالمغرب؟

في الواقع، هي حلول مفروضة علينا. مثلا، تحلية مياه البحر تستوجب التوفر على كميات كبيرة من الطاقة، ما يستدعي إمكانيات طاقية مرتفعة. والحمد لله أن بلادنا تتوفر لها كميات كبيرة من الإشعاعات الشمسية. وبالتالي، علينا أن نوسّع جهودنا وما قمنا به إلى حد الآن لتحويل الطاقة الشمسية إلى كهربائية حتى نحرّك وندعم هذه المؤسسات التي ستقوم بتحلية مياه البحر.

إضافة إلى هذا، نعلم أن هناك عددا كبيرا من السديمات المائية الباطنية، في عدد من الجهات بالمملكة، لها مياه ذات مُلوحة مرتفعة، ما يعني أنه وجب أن نضع مقاولات ومؤسسات وأجهزة مختصة في تحلية مياه تلك الفرشات المائية المتوفرة قصد استخدامها في المجال الفلاحي.

كما أنه على السلطات الحكومية المكلفة بالمياه، سواء كانت وزارة الفلاحة أو تلك المكلفة بالجيولوجيا والمناجم، أن تنكب على ضبط حقينة وموارد هذه السديمات المائية، وأن تقوم بتغيير مستواها، لاسيما بالنسبة للسديمات القريبة من السطح المستفيدة من الأمطار بشكل مباشر، عكس السديمات العميقة جدا في باطن الأرض التي استفادت منذ عقود جيولوجية بعيدة من أمطار وثلوج سقطت في الماضي، وماؤها لا يُجدد بشكل سريع.

تبعا لذلك، وجب الاحتياط والحذر من استعمال السديمات الأحفورية العميقة جدا، وأن نهتم بالسديمات القريبة من السطح كي لا نصل إلى نفاد المياه بها، راجين أن تكون السنوات القادمة ماطرة تمكن من تعويض ما استهلكناه بشكل غير معقول من موارد الفرشات المائية الممتدة على عمق 3 أمتار إلى حدود 100 متر أو أقل من ذلك.

منذ سنوات، خُصصت جلسات عمل حول المسألة المائية بالمغرب تكللت بإخراج البرنامج الوطني الأولوي للماء 2020-2027. كيف ترون أهمية هذا البرنامج وجهود مختلف المتدخلين في معالجة الوضع الراهن وضمان الأمن المائي للمغرب؟

نعم، كانت جلسات عمل مهمة أثمرت برنامجا طموحا، لكن الملاحظ هو عدم وجود مجهودات تواصلية من طرف الجهات الوصية على الماء، لاسيما وزارة الفلاحة، للتعريف بهذا المخطط الكبير الممتد على سبع سنوات.

كما أنه وجب لفت الانتباه إلى عدم انعقاد “المجلس الأعلى للماء”، منذ أكثر من 20 عاما، كهيئة وطنية تمكّن جمع المساهمين والمتدخلين في عملية استغلال وتوزيع الماء من الإدلاء بدلوهم في موضوع السياسة المائية بالمغرب.

هناك فعلا مستهلكون للماء بالمغرب، وهناك فئات متضررة من هذا الاستهلاك وكميته، هذا فضلا عن الذين لم يصلوا إلى استهلاك هذه المادة الحيوية في حياة كل شخص؛ إذ ينبغي مراعاة احتياجات الجميع في هذا الصدد وضمان الأمن المائي للمغرب وأجياله القادمة.