طبيعي أن يعتبر السيد مصطفى بايتاس أن العمل السياسي يتم فقط في البرلمان، والعمل خارج البرلمان هو انحراف عن العملية السياسية!
طبيعي لأن التجمع “هو فعلا تجمع لرجال الأعمال وكبار الملاك والمرتبطين بهم أو الموالين لهم من بعض المتعلمين ليكونوا ناطقين باسمهم ولهم أجرهم عند رئيسهم”.
التجمع هذا ليس حزبا سياسيا بالمعنى المعروف، هو في الأصل نشأ في البرلمان بتجميع النواب المستقلين عن الأحزاب والمرتبطين بالسلطة التي بوأتهم تلك المقاعد، وسموا بـ “التجمع الوطني للأحرار”، ليس حزبا منبثقا من المجتمع، ولم يمارس السياسة في المجتمع ولا العمل النقابي، ولا الجمعوي…
من الطبيعي والحالة هذه أن يحتقر قادته العمل السياسي الميداني والمتعدد الواجهات…
لذلك لم تول الحكومة الحالية أي اعتبار للجانب السياسي والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا توجد المسألة السياسية لا في البرنامج ولا في الحصيلة.
لكن الخطير، ليس هو فهم العمل السياسي، بشكل يحصره في المؤسسات ولا يريده في المجتمع، فهذا اختيار ومقاربة للعمل السياسي تجد جذورها في كيفية التكون الفوقي للتجمع المصلحي، بل الخطير هو السعي نحو فرض هذه المقاربة، وهذا الفهم للسياسة على المجتمع السياسي وعلى الحياة السياسية الوطنية.
الخطير أن تكون لدى حزب يتواجد في رئاسة الحكومة ولديه إمكانية تقنين هذا الفهم الضيق جدا للعمل السياسي عبر مشاريع قوانين تمنع ممارسة السياسة خارج الجدران الضيقة للبرلمان، لديه أغلبية مريحة يمكن له عبرها إصدار مثل هذه القوانين، ولديه تحكم وهيمنة على وسائل الإعلام وجزء كبير من المواقع الالكترونية التي يمكن أن تدافع عن هذه المقاربة النكوصية والتراجعية التي لم تكن ممكنة ومعمول بها حتى في زمن ما سمي بسنوات الرصاص.
ذلك هو الانحراف الحقيقي والممكن للحياة السياسية بالمغرب. ينبغي دق ناقوس الخطر، فكل شيء ممكن، والمسلسل الديمقراطي يعرف منذ السبعينات مدا وجزرا، والجزر ممكن في أي وقت.
لقد تحدثت الوثيقة السياسية للمؤتمر الوطني 11 لحزب التقدم والاشتراكية، عن “الركود الديمقراطي”، وقد يتطور الأمر إلى التراجع الديمقراطي، إن لم تتحرك القوى الديمقراطية لمواجهة هذه الأطروحة الخطيرة على المسار الديمقراطي لبلادنا.
لقد حدث ما يشبه هذا أواخر العشرية الأولى من هذا القرن، عندما جاء حزب السلطة الجديد وبدأ في إفساد الحياة السياسية والهيمنة عليها، و”بلع” عدة أحزاب، وتوجيه أخرى في أفق الحزب الوحيد عمليا، ولم ينتبه لخطورة هذا المسار على الحياة السياسية الوطنية سوى عدد محدود من الأحزاب، منها حزب التقدم والاشتراكية، والفعاليات الوطنية، ولولا 20 فبراير، ضمن حراك عام في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، لسارت الحياة السياسية الوطنية في مسار تراجعي ونكوصي بين.
ما الأحداث الاستثنائية لسنة 2011، وضعت حدا لمثل هذا المسار، وتمكن المسلسل الديمقراطي من تحقيق مد جديد توقف بعد سنة 2015، ثم “ركد” واليوم هو مهدد بجزر جديد…
ما أثار قادة التجمع في أگادير وكشف عن فهمهم البئيس للعمل السياسي هو الرسالة المفتوحة التي وجهها حزب التقدم والاشتراكية لرئيس الحكومة كمؤسسة دستورية، وليس لعزيز أخنوش رئيس التجمع كما يجدر التنبيه، الرسالة التي اعتبرها مصطفى بايتاس انحراف عن العمل السياسي !
ما قام به حزب التقدم والاشتراكية هو تقييم لحصيلة الحكومة في نصف ولايتها، ملخص الرسالة المفتوحة قدمه فريق الحزب في مجلس النواب في إطار مناقشة هذه الحصيلة، وحيث إن المدة الزمنية المخصصة للفريق لا تتجاوز ربع ساعة فإنه لم يكن بالإمكان توضيح كل ما يراه الحزب من أوجه القصور في العمل الحكومي، وتدقيق فشل الحكومة في تطبيق التزاماتها في التصريح الحكومي، وكان من الضروري تقديم تقييم الحزب بشكل سياسي أخر هو الرسالة المفتوحة، وهذا الشكل يتيح لوسائل الإعلام والمجتمع السياسي وعموم المواطنين، التعرف على هذا التقييم وعلى مواقف الحزب، مما أنجز وما لم ينجز من التزامات الحكومة في تصريحها عند التنصيب، هذا كل ما في الأمر…
وكما هو واضح ليس انحرافا على الإطلاق بل إغناء للحياة السياسية الوطنية… الحزب السياسي الحقيقي يعمل على كل الواجهات والبرلمان ما هو إلا إحدى هذه الواجهات، وهذا ما يفهمه ويعرفه كل فاعل سياسي…
أما هذه المقاربة “الجديدة” التي يعمل التجمع على فرضها على المجتمع السياسي فهي غريبة عن الحياة السياسية في المغرب ولن يتمكن لا التجمع ولا غيره من فرضها على المغاربة.
لقد تم تجريب التكميم في الماضي ولم ينجح حتى بالوسائل القمعية ولن يتمكن اليوم بوسائل الهيمنة الجديدة..
هذه البلاد وهذا الشعب ليست/ليس بعاقر، والمجتمع الحي دوما يفرز أدوات ووسائل مقاومة الهيمنة والنكوص والتراجع عن الديمقراطية وبأشكال غير متوقعة أحيانا.
درس الربيع و20 فبراير وما حدث من رجة سياسية وإيقاف مسار التراجع ماثل وقريب زمنيا، درس بليغ من الأجدر أن يرجع إليه قادة التجمع قبل فوات الأوان…
بقلم: عبد الصادقي بومدين